موقع قرية العمارنة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


موقع قرية العمارنة
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

شاطر | 
 

 اعتراااااااااااااف

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الاسطورة
مراقب عام
مراقب عام
الاسطورة

بلدي : مصر
الجنس : ذكر
نقاط : 10624
عدد المساهمات : 4200
العمر : 37
العمل/الترفيه : هندسة جرفك المنتدى

اعتراااااااااااااف Empty
مُساهمةموضوع: اعتراااااااااااااف   اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الجمعة أبريل 15, 2011 11:58 am

عدتُ أَتَلَمَّسُ طريقَ العودةِ إلى نفسي، لم تعدْ ملامحُ الطريقِ واضحةً.

وإنْ كنتُ قد اختبرتُ الكثيرَ مِن سُبلِ الضياع، وإنْ كانت الدروبُ كثيرةً جدًّا، فهيَ على كثرتها وتنوُّعِها، إلا أنَّ بعضَها أوضحُ من البقيَّة، وليسَ الوضوحُ - دومًا - دليلَ خيرٍ فيها، وإن كانَ - في مُطْلَق الأمرِ - خيرًا، فوضوحُ السوءِ خيرٌ بشكلٍ أو بآخر.

وما دفعني إلى العودة، هو أنِّي ما كنتُ غبيًّا يومًا ولا تملَّكَني الجهلُ حينًا، فثَقُلَ عليَّ - بعدَ طولِ سُقوطٍ - أنْ أَفقدَني.

فعُدتُ طريقًا طويلاً، كِدتُ - لولا رحمةُ ربي - أنْ أهلِكَ في كثيرٍ من فُصولهِ وانعطافاته.

نَشَأتُ في بيتٍ يَعرِفُ للعلمِ قيمةً، ويُعلي للدينِ قدرًا، ويتواصى أهلُهُ - دونَ قَصدِهم - على إقرارِ الحقِّ - ولو بأبسطِ صورهِ وأشكاله - في حياتِهم الأُسَريَّةِ الضيِّقة.

وتخطَّفَتْني الحياةُ بعدها، وثَقُلَتْ عليَّ أحمالي، فألقيتُها لأستَريح، وما دريتُ أنَّنِي - إنْ أنا فَعَلتُ - صِرتُ بلا وزن، فنَسِيَتْني الجاذبيَّة، لأصيرَ دُميةً مِن ورق، يتقاذَفُها الهواء، فلا يرفَعُها مرَّةً، إلا ليهوي بها مجدَّدًا، ولا فرقَ عندهُ إنْ هيَ سَقَطَتْ في بركةٍ من ماءٍ آسنٍ تَجمَّعَ بينَ شقوقِ الأرض، أو تحتَ قدمٍ عابثةٍ مستعجلة، تدهسُ ما تمرُّ فوقه.

وإنْ كنتُ الآنَ شخصًا يُوصفُ بأنَّه ذو وزنٍ وقيمة، لكني ما أحسستُ يومًا أنَّهما كانا لي.

وإن كانت الأقاربُ والأباعدُ تشيرُ إليَّ بأصابعها، وتترنَّمُ باسمي، وربما تفاخرَ بي أخي بينَ أصحابه، وعمِّي بينَ معارفه، وحتى صبيُّ الدكان إن هو أعانني في حملِ أشيائي.

كانَ نَهَمُ التفوقِ يَسكنني منذُ أيامِ طفولتي المبكِّرة، وكنتُ صبيًّا صغيرًا يترقَّبُ انقضاءَ شهورِ العطلة، لتطلَّ بعدَها فصولُ الدراسة.

أضمُّ في نهايةِ كل سنةٍ دفاتِري وأوراقي، وحتَّى كُرَّاساتِ الرسمِ الذي لا أجيده، أجمعها في كيسٍ، وأخبِّئها حينًا من الزمن، حتى يُزاحِمَهُ مكانَه كيسُ السنَةِ التي تليها، فتجودُ نفسي - غيرَ آسفةٍ - به، وقد أُعيدتْ أمامي مشاهدُ استصغاري لما حفظتهُ؛ ظنًّا مني أنَّهُ تُحفةٌ تستحقُّ العناية، فأعودُ ككل سنة، أرمقها باستهانةِ الطفلِ الذي كنتُهُ قبلَ عام.

تخطيتُ مراحلَ دراستي بتفوقِ المحبِّ لا المجبَر، وكانَ اسمي موضعَ احترامِ الطلابِ من زملائي والأساتذةِ والمعلِّمين.

حتى امتلأتُ بشبهِ يقين، أنَّ السماءَ ما أظلَّتْ ألمعَ مني، وصرتُ أنتظرُ من الأيامِ أن تنقادَ لي سُنَّتُهَا التي تجري على أمثالي، فتمنَحَني مكانيَ الذي أستحقُّهُ راغمةً صاغرةً.

وكنتُ كلَّما ازددتُ تفوُّقًا ازددتُ ابتعادًا عن نفسي، حتى صرتُ لا أدري تعريفًا لما أُكنُّهُ، ولا أعرفُ لنفسي وجودًا واضحًا في غيرِ العلمِ والدراسة.

كنتُ إخالُني أصنَعُ حياتي، وما كنتُ أدري أنِّي لستُ أكثرَ من نتيجةٍ فيها، ناتجٌ ضمنَ معادلاتِها المعقَّدة.

حتى عندما ختمتُ دراستي الثانوية بالمركزِ الأوَّلِ على مدينتي، كانَ خِيارُ دخولي كليَّةَ الطبِ قرارًا تأخذُهُ الحياةُ عني.

ودخلتُ كالأبلهِ كليَّةَ الطب، وأنا أحسُّ أنني قد تُوِّجتُ ملكًا قدْ حِيزتْ أمامَهُ علومُ الأرض، وأنا الجاهلُ أُلِمُّ بالقليل.

مرَّتْ أيامُ دراستي في الكلية كما مرَّت السنونُ التي سبَقَتها، لا أعرفُ من الحياةِ سوى شوقي إلى نظرةِ إكبارٍ يُخالِطُهَا اليأسُ من اللحاقِ بي.

هَمِّيَ الأوحدُ اسمي، وهالةُ النورِ التي أُنَمِّقها له، ولذَّةُ العلمِ تسري في عروقي، وما عداها من أمورٍ مؤجَّلةٌ في ذهني إلى غيرِ ميعاد، أخشى أنْ أُعلنَ لنفسي موتَها فأُخَدِّرُ مواجهتَها تحتَ مُسمَّى التأجيل.

فذاكَ الوصفُ يَسَعُ كلَّ ما يزعجنا وأْدُه، وكأننا ننكر أننا نقتُلُه، إذ نغرقه في حَيِّزٍ مستقبلي، على أملِ أنْ يُولَد، كأننا نقولُ: إنَّهُ الآنَ مَيْت.

تسويفُنَا يعني صبرَنا على قتلِهِ لحظَتَنا التي نملِكُهَا، لنودِعَهُ مستقبلاً لا نملكه.

وعندما تتملَّكُني تلكَ الفكرةُ المزعجة، أُخَدِّرُها بوعدٍ كاذب أنَّ التسويفَ لن يطول، وأنِّي قادمٌ إلى كلِّ ما أودعتُهُ رحِمَ النسيان موقِظًا ومُتَمَثِّلاً مِن جديد.

فذاكَ في الواقع هو مادةُ التسويفِ وشَرحُه، ولو انعدمت الوعودُ على إهمالٍ لصارَ الأمرُ إقلاعًا واضحًا لا تسويفًا.

غيرَ أن تلكَ الأكاذيبَ لم تعدْ لتُجدي؛ لكثرةِ حنْثِهَا، وانفضاح بُطلانِها.

وهكذا وجدتُ نفسي مضطرًّا للمثولِ أمامَ مواجهةٍ حاسمة، أعلنُ لنفسي فيها كُفري بما أغرقتهُ طويلاً في لُجَّةِ التأجيلِ والوعودِ والأحلامِ، فأَتَحرَّرَ من كل ذلك، وأبدأَ بذاتٍ جديدة تَدِينُ بالمصلحةِ والمنافعِ والرغباتِ، حياةً أكثرَ استقرارًا وموائمةً لحالي.

أو أنِّي أعودُ فأصعد دربًا نازلاً، كم تَسارعَ هُبوطي فيهِ وانحداري، ولم يتبقَّ على أنْ أُلامسَ قَعْرَهُ إلا قرارُ تَغَيُّرِي، وأحتملَ في سبيلِ ذاكَ الصعودِ مشقَّةَ التخلي عن جُلِّ ما حَقَّقْتُهُ، لا لشيءٍ سوى لأَنْصَاعَ لنداءِ الضميرِ المُلحِّ الذي منعني أخيرًا من القَرَارِ حيثُ انتهتْ بي زلاَّتِي.

أُوفِدتُ بعدَ تَخَرُّجِي إلى واحدةٍ من أفضل جامعاتِ الدنيا، لأُتابِعَ دراستي العُليا هناك.

وكانت الجهةُ الموفِدةُ لي تتصدَّرُ واجهةً تجاريةً ضخمةً، فلعلَّها رأتْ في إيفادي دعايةً لها وتسويقًا.

كانتْ سنتي الأولى عالَمًا جديدًا بحدِّ ذاتِها، تَنَقَّلتُ فيها بينَ اغترابٍ بسيطٍ في البداية، قَهَرَهُ طموحي وصبري في سبيلِ ما أرنو إليهِ، وبينَ انبهار بمخابرَ ومشافٍ وإمكانيَّاتٍ وجدتُها قد بُسطتْ أمامي مرَّةً واحدة.

إلى تَعَلُّقٍ شديدٍ، بما أقدمتُ عليهِ، ورغبةٍ في التعلُّمِ والتميُّزِ من جديد.

لم أكن أُعيرُ اهتمامًا لقلَّةِ ما خُصِّصَ لي كراتبٍ يُعينني على الدراسة في بلادٍ لا أعرفُ فيها أحدًا يُعينني.

ورغمَ أنِّي لم أكن ممن يسعَوْنَ - في ذاكَ الوقتِ - إلى شيءٍ من رَفاهيةٍ، أو بسيطٍ من راحة، إلا أنني كنتُ - بالكادِ - أستعينُ براتبي على حياةٍ لا توصيفَ لها أبلغُ من الكفاف.

ثمَّ بدأتْ تتباعد الفتراتُ في تسليمي ذاكَ الراتب، حتى صرتُ أستلمه عن ثلاثةِ شهورٍ معًا دَفعةً واحدةً، ثمَّ صارَ يأتيني شهرًا ويغيبُ شهرًا، فلا يُضافُ بعدَ غيابهِ إلى مخصَّصِ تاليهِ من الشهور.

وكانتْ تلكَ الأيام صعبةً عليَّ وشاقَّةً، فكيفَ يحيا هناكَ من لا يَدَّخِرُ معهُ شيئًا لأيامٍ لا يعطيهِ فيها أحدٌ شيئًا؟!

ورَغمَ كثرةِ مراسلتي للمسؤولينَ عني ومراجَعَتِهِم في وضعي، إلا أني كنتُ أعلمُ أنَّ ذاكَ لن يُجدي، فقد كنتُ إن استُجِيبَ لي مرةً، أُهمِلتُ مراتٍ عديدةً بعدَها.

وظلَّ ذاكَ حالي حتى صرتُ مُخيَّرًا أمامَ بقائي بلا معونةٍ من أحد، وبينَ رجوعي إلى بلدي، هاجرًا حُلمي الذي تدانَى لي قِطَافُه.

بيدَ أنَّ مثلي كانَ أهونَ عليهِ أنْ يتخلَّى عن روحهِ التي بينَ جنبيهِ، على أن يُغادرَهُ طموحُهُ الذي لا طاقةَ لهُ أن يحيا دونَهُ.

ثمَّ مرَتْ سنتي الثانية، ليسَ لي إلا ما أتقاضاهُ من المشفى التي قُبلتُ فيها؛ لأتمَّ تخصصي هناك، والذي كانَ لا يسدُّ غيرَ رسومِ دراستي، فكيفَ لي بسَدادِ أجرةِ البيتِ الذي أسكنهُ، والقيامِ بشؤوني فَضلاً عن ذلك.

وبدأَ شبحُ رجوعي إلى بلدي يتضحُ أكثرَ، وبدأتُ أراهُ حقيقةً واضحةً لا مفرَّ لي من الانصياعِ لأمرها.

ورغمَ كلِّ ما حدث، إلا أنني كنتُ أزدادُ تفوُّقًا واجتهادًا، لا يُثنيني خوفٌ أو فقرٌ عن التشبُّثِ بحلمي بكلِّ ما أوتيتُه من قوةٍ وطاقة.

حتى بلغَ اليأسُ مني كلَّ مَبلغ، وصارتْ عودتي مسألةَ وقتٍ أتحيَّنُ تأخيرَ حِينِهِ، وكنتُ - على ذاكَ - متعلِّقًا بوهمي، أداومُ في عملي، وأواظبُ على دراستي وأبحاثي.

حتى أتتني تلكَ الليلةُ المشؤومة، كنتُ في مناوبةٍ ليليَّة، أتجاذبُ وبعضَ الأوراقِ على مكتبي مسائلَ وآراءً شتى، فتخالفُني وأخالفها، وبقيتُ - رغمَ أنَّ سهري قد طال - أطالعُ فيها، ورأسي تُحَوِّمُ برتابةِ طنينِ المروحة المجنونةِ المتدلية من السقف فوقي، ترسمُ على الجدرانِ ظلالَها القاتمةَ، حتى لأفزعُ بينَ الفينةِ والأخرى، وأنا أظن شبحًا قد ارتمى على رفوف الكتبِ مواجهتي، ثم أستبينُ - في غمرةِ ذُعري - أنها خيالاتُ ذراعها تدورُ حاجبةً ضوءَ المصباحِ الباهتِ خلفَها، ويقطعُ حالي تلكَ دخولُ الممرضةِ الغريبةِ اللكنة، مستشيرةً في شيءٍ أو مسترشدةً.

حتى أخذتني سِنةٌ قصيرة، وأنا جالسٌ على مكتبي، أستقدمُ الصباحَ بكل ما أملكهُ من رجاءٍ، وعفاريتُ المروحةِ ترتمي قاتمةً على الجدرانِ، والرفوفِ، والبابِ الزجاجي المفتوحِ على الممرِّ الطويل.

لقد بدأتْ أشباحُ المروحةِ تفرُّ إلى الممر، إني أرى أحدَها يُطلُّ من نهايةِ المدخلِ، غيرَ أنهُ أكثرُ اتزانًا من البقية، لن أفزَع منهُ مجددًا، فقد اعتدتُ على هذا، كما أنني أحوِّمُ من شدةِ النعاس.

لا ريبَ أنَّ ذاكَ الشبحَ لا ينبثقُ من تلكَ الظلال، إنهُ يتقدمُ نحوي في ثبات وجدِّيَّةٍ، ولا يتمسَّحُ بالجدرانِ والأرضياتِ والرفوفِ مع لفَّاتِ المروحةِ المنتظمة.

لقد استحالَ الشبحُ إلى امرأة، لقد باتتْ ملامحها واضحةً، هي امرأةٌ حقًّا، تبدو في الثلاثينَ من عمرها، لم يعد النومُ يداعبُ جفوني، استأذنتني بلباقةٍ ودخلتْ، لقد كانَ أولَ ما فعلَتْهُ أنْ أخرجتْ لي مبلغًا من المالِ في ظرفٍ ورقي، لا شكَّ أني لم أزلْ نائمًا، وهذا الشبحُ أمامي ليسَ إلا خيالاً من الخيالاتِ، التي لا تتوقفُ تستبيحُ غرفتي منذُ أن داهمني النعاس.

حدَّقتُ في وجهها أكثرَ أنتظرُ تلاشيَها، أو حتى انقلابَها إلى عفريتٍ في صورةٍ أخرى كما كنتُ أتخيَّلُ في طفولتي، غيرَ أنها لم تنقلب، إلا عن ابتسامةٍ هادئةٍ ارتسمتْ خلفَ شفتيها المطبقتين، أتراهما تُفتحانِ الآنَ عن أنياب وأستيقظُ فزِعًا من هذا الحلمِ الغريب!.

غيرَ أنَّها كانتْ أنفدَ صبرًا منِّي، فلم تَطُل ابتسامَتُهَا المحتجبةُ خلفَ انطباقِ صمْتِها، حتى ذابتْ في غَمرةِ حديثها المرتَّبِ الأنيق.

سرَدتْ لي في اختصارٍ متعمَّد، كيفَ أنَّها لم تجدْ غيري - بعدَ أنْ علمتْ بسوء حالي - لتعرضَ عليهِ مساعدتها.

حدَّثتني بثقةِ المتْرفِ الواثقِ من قوَّةِ ما يعرض، وباستعلاءِ الغنيِّ المتفضِّل، لا بلسانِ طالبِ المساعدةِ المحتاجِ لعَوني، وظلَّتْ خلالَ قرابةِ ثُلثِ الساعة، تستعرضُ لي كيفَ انتهتْ بها الحياةُ مع زوجٍ كبيرٍ، يَكبرها بثلاثينَ عامًا، لم يعدْ يفصِلُهُ عن الموتِ إلا أيَّامٌ قليلة، يُبَشِّرُ بانتهائِها تدهورُ وضعهِ الشديد مؤخَّرًا.

قالتْ لي: إنَّها لن تكونَ آسفةً لأجلهِ حينما يُوَدِّعُ الحياة، فهوَ - على حدِّ قولِها - قد أخذَ أكثرَ من نصيبهِ فيها، وقد حانَ الوقتُ أخيرًا ليتركَ للبقيَّةِ شيئًا ينعمونَ به من بعده.

وأردفتْ أنَّها لن يتسنَّى لها التنعُّمُ بالحياةِ وهو يريدُ تقييدَها - حتى بعدَ موته - بطفلهِ الذي تحمله، وبادرتني بالسؤالِ إن كنتُ أستغربُ أن تسميه طفلَهُ، لا طِفلَها، وعقَّبت بالحال أنَّها لم تخترْ وجودَه، كما أنَّها لم تخترْ من قبلُ وجودَ والدهِ في حياتها، لكنَّها علاقاتُهُ وسطوتهُ مَن ساقتْها إلى أنْ تكونَ مُلكًا جديدًا اشتهاهُ فكانَ لهُ، كمثلِ كلِّ ما يشتهيه متطلِّبٌ دنيءٌ ذو سلطان، فيكونُ لهُ ما يشتهي.

وكانتْ - بينَ فكرة وأخرى - تُلَوِّحُ لي بجزيلِ عطائِها الذي ينتظرني إن أنا أتممتُ لها ما أرادتْ.

لم تكنْ خُطورَةُ الأمرِ عندي تَعْدو خوفي من اكتشافِ فعلتي إن أنا فعلتُها، ولم يأخذ التفكيرُ مني وقتًا طويلاً، حتى أجبتها بعدَ يومينِ فقط، بقبولي عرضَها الذي طَرَحَتْ.

لم أفَكِّر وقتها فيما إن كانتْ صادقةً في وصفِها للزوجِ المريضِ الذي ينازعُ الموتَ بعضًا من حياة، فيسحبهُ خطوةً إلى القبرِ، وينأى عنهُ أخرى.

ولم أهتم كثيرًا بكوني أُعِينُهَا على قطعةِ اللحمِ التي ستنشقُّ عن بشرٍ يلجُ الحياةَ بعدَ بضعةِ شهورٍ، حتى أنِّي لم أستَشعِر خيانةً لطريحِ فراشِهِ، إذ انتزع الحياةَ التي قُدِّرَ لهُ أن يزرَعَها في رحمِ تلكَ المرأة.

ولا أُخفي أنِّي خالطني بعضٌ من الاستغرابِ من نفسي، فقد ظننتها تُمانِعُني أكثرَ مما فعلتْ، وكنتُ أحسَبُ أنِّي أعلى روحًا، وأعمقُ فِكرًا.

بيدَ أنِّي لم أقفْ كثيرًا عندَ كلِّ ذلك، ولعلِّي كنتُ مغتبطًا، إذ سارت الأمورُ على نحوٍ يخدمُ بقائِي هنا وإتمامَ أموري.

وبعدَ ذلك، صارتْ مثلُ هذهِ الأمورِ عندي عادةً أَلِفُتها، فلا يمرُّ شهرانِ إلا ولي حالةٌ كمثلِها.

وحتى أنِّي كُنتُ أغتمُّ إذا ما مرَّت شهورٌ دونَ أنْ يأتيني أحدٌ بمثلِ هذا الطلب.

ولاحتْ لي السنةُ الرابعةُ هنا، وأنا أزدادُ لمعانًا وتفوقًا، وأزدادُ علمًا وإلمامًا، حتى بت ُّمكانَ اهتمامِ الجميعِ واحترامِهِم.

وبتُّ كذلكَ موضعَ غيرةِ زملائي، وحسدهم، وحتى مكايدِهم.

وكانَ أنْ ألمَّت بي ظروفٌ صحيَّةٌ عارضةٌ وأنا على أبوابِ نهايةِ عامي الرابع، وفاجأتني إغماءةٌ بسيطة، ربما مَرَدُّها إلى الإرهاقِ والتعب، غيرَ أن مكانتي الكبيرة هناك جعلتهم يسارعونَ بالاحتفاء بي، ونُقِلتُ في غمرةِ غيابي عن الشعورِ إلى غرفةٍ مجهزةٍ فخمة، يَدخلُ عليَّ بينَ الحينِ والآخر طبيبٌ من زملائي، أو آخرُ من أساتذتي، وأنا - في كلِّ ذلكَ - ممدَّدٌ بلا حراك، تحتَ وطأةِ حقنةٍ أُعطيتُهَا قبلَ ساعة، تجعلني غارقًا في شبهِ خَدَرٍ، وبعضٍ من نومٍ متقطِّع، واستسلامٍ كاملٍ لقوَّةٍ غريبةٍ تسحبني لأغرقَ في سريري، وإن كنتُ أتبيَّنُ بعضًا مما يدورُ حولي، غيرَ أنِّي ما كنتُ أملكُ أن أُجيبَ أو أُشارك، وأنا مستلقٍ مُغمَضُ العينينِ كنائمٍ يَقِظٍ، لا يدري عن يَقَظَتِهِ إلاَّ هُو.

حتى أَطَلَّ - بعد قليلٍ - اثنانِ من عمالِ النظافة، أثارت أشياؤهما التي يحملانِها ضوضاءَ مزعجة، وبدا عليهما شيءٌ يثرثرانِ فيه، لم أتبينهُ في البداية، ثم أخذتْ أصواتهما تعلو مع اقترابهما من سريري.

صاحَ أحدهما في زميلهِ أن يفعل، وتريَّثَ الآخرُ وقتًا، حتى أعادَ الأولُ طلبه، فاستحلفهُ زميلهُ أن يعفيهُ من ذلك.

فانتهرهُ أنَّ عليهِ أن يُنَفِّذَ ما طلبهُ أحدُ زملائي منه، كانَ زميلاً لي، بيننا شبهُ عداوة، لا بل هي عداوةٌ واضحة، وإلا لا يقتلُ إلا العدوُّ عدوَّهُ، تُرى أيَّ نوعٍ من العداوةِ كنتُ أحملُها للأجنَّةِ القتيلة؟!

أخذَ الآخرُ يستعرضُ مذكِّرًا صاحبَهُ بوعودِ الطبيبِ له، ومهددًا له حينًا آخرَ بما قد يجلبهُ له نكثُهُ بعهدهِ للطبيبِ مِن مشاكلَ وأمورٍ هو في غنىً عنها.

ثم لَمَّا أحسَّ أن ذاكَ لم يعدْ يفلح، أتاهُ من بابِ ما يحتاجهُ كلاهما من مالٍ سيجودُ به لهما بغيرِ حساب، فيعودانِ إلى بلدهما بعدَ طولِ غيابٍ وتفرُّقٍ عن أطفالهما وزوجاتهما.

وأحسستُ بعدها بيدِ الرجل يمسك مرفقي، وكأنَّهُ همَّ بحقني بما أُعطِيَه.

وعلمتُ وقتها أنَّ نهايتي قد حانتْ، ولم أكنْ متعاطفًا معي كثيرًا، غيرَ أني كنتُ خائفًا مما أنا مُقْبِلٌ عليهِ بعدَ أن تَسْرِي حقنتهُ فِيَّ، تُرى بأيِّ حجةٍ سأعتذرُ حينها عن أجنَّتي القتيلة؟!

أمسكَ بكفي بينَ يديهِ وأخذَ يُقَلِّبُها، شَجَّعَهُ صاحبُهُ أن يَفعل، غيرَ أنَّهُ أمسكَ حينًا، ثم أعادَ يدي إلى مكانِها على جانبي.

واعتذرَ أنَّهُ لن يقدرَ أن يحقنَ يدًا بالموت، وهي لطالما حقنت الأيدي بالحياة.

وانسحبَ سريعًا ومضى، وتبعَهُ صاحِبُهُ معاتبًا، حتى غابَ صوتُهُما عني.

بالأمسِ خَرَجتُ من غرفتي تلكَ، واجتمعَ زملائي فرحينَ أو متفارِحينَ بسلامتي، بعدَ ليلتي اليتيمةِ التي أمضيتها شبهَ مريضٍ، شبهَ نائم، وبينَهُم زميلي ذاكَ الذي أرادَ لي الموت.

ابتسمتُ في وجوههمْ جميعًا، لم أعد أفرِّقُ بينَ الوجوه، فعَلى أقلِّ تقدير، بيننا قاتلٌ هو أنا، وشبهُ قاتلٍ هو زميلي ذاك.

نَزَلتُ إلى الطابقِ السفلي، التقيتُ عاملَ النظافةِ الذي ظنَّ بي خيرًا مما أستحقُّهُ.

رمَقتُهُ بشيءٍ من إجلالٍ، وغبطة، لم أُجرِّب أن أرمُقَ بهما أحدًا من قبل.

ورآني فتحاشى النظرَ إليَّ، لعلَّهُ كانَ خجِلاً، أقبلتُ عليهِ محييًا للمرةِ الأولى في حياتي، فاستغربَ مجيئي، صافحتهُ بحرارةٍ صادقة، كما لم أفعل من قبلُ مع أحد.

وتمنيتُ لو أني أحظى بشيءٍ من احترامٍ كمثلِ ما أُكنُّهُ له من احترام.

ودَّعتهُ مخبرًا إياهُ بأني عائدٌ إلى بلدي، فقد استجدَّتْ لديَّ بعضُ الأمور، وأخبرتهُ أنِّي لن أقدرَ أن أتابعَ دراستي هنا قبلَ أن أتعلَّمَ شيئًا مهمًّا نسيتُ أو تناسيتُ أن أتعلَّمه.

لم يهتم كثيرًا بفهمِ ما قلتُه، لكنَّهُ تمنى لي الخير.

أعطيتهُ هديةً بسيطةً، أرفقتها بكل ما تبقى معي من أجورِ قتلِ الأجنَّةِ وإسقاطِها، كأني أقنعتُ نفسي بأني أودعُ بقايا تلكَ الأرواحِ الطاهرةِ في يديهِ النظيفتين؛ علَّهُ يبقى نظيفًا - كما هو الآن - محترمًا كبيرًا.

ومضيتُ دونَ أن أناقشَ أحدًا، عائدًا إلى بلدي، لا بشهادةِ طبيبٍ من جامعةٍ كبيرة، تزيدني أَلَقًا في عيونهم الطيِّبة، لكن بشيءٍ من روحٍ تستصغرُ كلَّ علومِ الأرضِ وأصحابِها، عندما تُحالُ أداةً للموتِ، والمنفعةِ، وتَصَيُّدِ نظراتِ الإكبار الزائفة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elamrna.yoo7.com
عرفات المازني
مراقب
مراقب
عرفات المازني

بلدي : مصر
الجنس : ذكر
نقاط : 10944
عدد المساهمات : 4588
العمل/الترفيه : مــديـر مــالـي

اعتراااااااااااااف Empty
مُساهمةموضوع: رد: اعتراااااااااااااف   اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الأحد أبريل 17, 2011 12:22 pm

[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://elamrna.yoo7.com
 

اعتراااااااااااااف

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

 كلمات دلالية كلمات دلالية
 Konu Linki الموضوع
 كود BBCode BBCode
 كود HTML HTML Kodu
صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
موقع قرية العمارنة :: ۩۞قسم الادب والفنون۩ ::  :: القصص القصيرة-
انتقل الى:  
المواضيع الأخيرة
» كتاب متن الرسالة
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الأحد أغسطس 02, 2020 2:12 pm من طرف ايهاب

» كتاب مواهب الجليل لشرح مختصر الخليل
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الأحد أغسطس 02, 2020 2:09 pm من طرف ايهاب

» تلاوة تفوق الوصف من سورة الأنعام "وعنده مفاتح الغيب "(كاملة) محمود الشحات أنور
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الثلاثاء يناير 21, 2020 8:19 am من طرف ابن النيل

» القبض على اللهو الخفى فى اسبانيا
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الثلاثاء يناير 21, 2020 8:18 am من طرف ابن النيل

» نغمتك باسم حضرتك
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الثلاثاء يناير 21, 2020 8:15 am من طرف ابن النيل

» ستايل الامراء الاصدار الثانى للنسخه الثالثه
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الإثنين يوليو 29, 2019 1:20 am من طرف Ahmed Moubarak

» هل تعلم | وصف عرش الرحمن - اين يوجد - حجمه - من يحمله - سبحان الله
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1السبت مايو 11, 2019 11:41 am من طرف ابن النيل

» لكتابة اسمائكم عالصور
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الأربعاء سبتمبر 05, 2018 3:34 pm من طرف الحوامدي

» تحميل لعبة SURVIVOR ROYALE للكمبيوتر
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الأربعاء سبتمبر 05, 2018 3:33 pm من طرف الحوامدي

» علمتنـــى الحيـــــــــاه ( العمارنه فى قلبى )
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الأربعاء سبتمبر 05, 2018 3:26 pm من طرف الحوامدي

» ذكريات رمضانيه
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الثلاثاء سبتمبر 04, 2018 1:54 pm من طرف الحوامدي

» عمل لاينقطع أجره حتى بعد الموت
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الإثنين سبتمبر 03, 2018 2:37 pm من طرف الحوامدي

»  كتاب تفسير الأحلام - ابن سيرين
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1السبت سبتمبر 01, 2018 8:25 am من طرف ابن النيل

» نصائح لتفعيل الطاقه الإيجابية لديك
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الخميس أغسطس 30, 2018 7:42 am من طرف شاعر المليون

» مفيدة لاسترجاع الأرقام المحذوفه من الجوال
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الثلاثاء أغسطس 28, 2018 7:18 am من طرف الحوامدي

» برمجه الريموت المتعدد ( حصريا ) بطريقه اوتوماتيكبا
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الإثنين أغسطس 27, 2018 10:26 am من طرف ابن النيل

» فيلم Hotel Transylvania 3: Summer Vacation 2018 مترجم اون لاين HD
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الأحد يوليو 22, 2018 6:38 pm من طرف الحوامدي

» افتراضي اكبر مجموعه مواقع لعمل تأثيرات وخداع على الصور .
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الإثنين يوليو 16, 2018 3:06 pm من طرف ابن النيل

» تنزيل برنامج حقيبة المسلم تحميل برابط مباشر
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1السبت يوليو 14, 2018 8:13 am من طرف ابن النيل

» تحميل حكايات الف ليلة وليلة الاذاعية mp3 كاملة بالترتيب
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1السبت نوفمبر 04, 2017 10:44 am من طرف ابن النيل

» النقابة تتعاقد مع فندق سولاريس 1 بخصم 20% للأعضاء وأسرهم
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الخميس أغسطس 17, 2017 2:23 pm من طرف ابن النيل

» سلسلة محاضرات الشيخ الشعراوي الدرس الثاني
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الثلاثاء أغسطس 15, 2017 3:38 pm من طرف ابن النيل

» فندق سولاريس العائم بسوهاج 5 نجوم
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الثلاثاء يناير 31, 2017 9:30 am من طرف ابن النيل

» افتتاح الفندق العائم سولاريس١ بسوهاج
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الإثنين ديسمبر 19, 2016 12:28 pm من طرف ابن النيل

» واجهُةَ احتِراِِفية غاِيةِِ فىِ الٍجمٍٍال لأًصحِـِابِ الُذوُقِ
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1الأحد سبتمبر 20, 2015 9:28 am من طرف هشام حامد

» ادمج الصور وتلاعب بها بسهولة بهذا البرنامج الصغير
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1السبت سبتمبر 19, 2015 8:42 am من طرف هشام حامد

»  برنامج رووعة لاضافة تأثيرات عالصور وبدون تسطيب
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1السبت سبتمبر 19, 2015 8:42 am من طرف هشام حامد

»  صلح جهازك بدون فورمات !؟؟
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1السبت سبتمبر 19, 2015 8:41 am من طرف هشام حامد

»  برنامج عجبيب يمكنك من إزالة أي شئ من صورك كأن لم يكن شئ بداخلها دون يمس بجودة الصورة أو جمالها
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1السبت سبتمبر 19, 2015 8:34 am من طرف هشام حامد

» كورس تعليم فوتوشوب 10او11 من اعدادي بالصور و التفاصيل و تمام التمام
اعتراااااااااااااف Icon_minitime1السبت سبتمبر 19, 2015 8:32 am من طرف هشام حامد

©phpBB | Ahlamontada.com | منتدى مجاني للدعم و المساعدة | التبليغ عن محتوى مخالف | ملفات تعريف الارتباط التابعة لجهات خارجية | آخر المواضيع
لمشاهدة المزيد م اعمالنا اضغط هنا